إنه القدر
- بل هى الصدفة ؛ تلك التى أتت بى إلى الدنيا وتلك التى أنقذت أبى من محاولة اغتيال ولولا نجاته ما كنت ماثلاً أمامك الآن ، وهى الصدفة أيضاً التى كانت وراء هذا الكون العجيب ، وهى الصدفة التى غنى لها المطرب عبدالحليم حافظ : (( كان يوم حبك أجمل صدفة يوم ما قابلتك مرة صدفة )) .
وهى الصدفة التى قالوا عنها قديماً .. (( رب صدفة خير من ألف ميعاد )) . فعن أى قدر تتحدث ؟؟!!
أعن القدر الذى غنى له أيضاً المطرب عبدالحليم حافظ قائلاً : (( قدر أحمق الخطى )) ؟؟!! أم عن القدر الذى كتب عنه أديب نوبل نجيب محفوظ رواية كاملة بعنوان (( عبث الأقدار )) ؟؟!!
بئس هذا القدر الذى حطم حياة آلاف الناس ؛ أى قدر هذا الذى يحكم على طفل صغير أن ينشأ يتيماً ويتربى محروماً ويعيش مقهوراً وينتهى نهاية مأساوية ؟؟!!
أى قدر هذا الذى جعلنى أفقد الفتاة التى أحببتها وأحبتنى بسبب انحطاط مستوى المعيشة وعدم التناسب بيننا ؟؟!!
أى قدر هذا الذى يجعل من حثالة البشر أسياداً لنا فى زمن اتسم كل شئ فيه بالنذالة والدونية والانحطاط ؟؟!!
لقد سئمت كلامكم السخيف والذى قد يصل أحياناً إلى درجة الفحش !! سئمت التفلسف والكلام اللامنطقى بدعوى الرضاء بالمكتوب أو كما يقول المثل العامى السخيف : (( اللى مكتوب ع الجبين لازم تشوفه العين )) .
مللت النظر إلى تلك الوجوه الكاحلة التى شاخت وتخطت الثمانين عاماً فإذا ما سمعنى واحد من هؤلاء أتكلم وأُعرب عن سخطى وغضبى يرد ببرود منقطع النظير : والعياذ بالله إنت هتكفر يابنى !!
أى كفر هذا فى أنى أريد حقى السليب ؟؟!! أى كفر فى أنى أريد العدل لا أكثر ولا أقل ؟؟!!
لقد تخرجت فى كلية الآداب ولا يوجد لدى سوى قميص مهلهل وبنطال مرقع أخرج بهما فى المناسبات ؛ فى حين أن فتى من حارتنا حاصلاً على (( دبلوم صناعي )) يرتدى ما يريد ، ويأكل ما يشتهى ويقتنى (( موبايل )) حديثاً بأربعة آلاف جنيه !!
أين العدل أيها الظلمة ؟؟؟
أين العدل يا من تشبهون من يأتى ليتكلم فى المآتم ربع ساعة ويأخذ عدة جنيهات وينصرف ؟؟!!
أنا لم أعرف السعادة إلا مع الصدفة ؛ فهى التى جلبت لى الخير ، وهى التى عرّفتنى بأناس أحببتهم وأحبونى ، وهى التى أنقذتنى من موت محقق أمام أحد القطارات ، وهى التى علقتنى ببنت الجيران الجميلة وجعلتها تتعلق بى ، وهى ... وهى ...
- ماذا اقول لك وأنت لا تعطينى فرصة لكى أرد عليك ؟
- آسف ولكن الكبت والإحباط جعلانى أنسى نفسى والدنيا كلها ، ويمكنك أن ترد علىّ.
- سأحدثك عن نفسى لأثبت لك أن الحكاية ليست عبثاً أو صدفة كما يروق لك أن تسميها ...
ماذا لو كان جدى قد أصيب بداء (( الكوليرا )) الذى اجتاح مصر ؟ ؟ بالطبع لم أكن لأقف أمامك الآن . لأنه إذا مات جدى فلن يكون أبى وبالطبع فلن أكون أنا .. فأى صدفة تلك التى تنقذ جدى لتأتى بى إلى الدنيا ؟؟!!
إذاً ليست الصدفة ولكنه القدر ..
ماذا لو كان أبى قد تزوج من خطيبته الأولى ولم يتزوج من أمى ؟؟!! بالطبع لن أكون أنا .. فأى صدفة تلك التى أفشلت موضوع الخطبة الأولى ووفقت الثانى والذى انتهى بزواج أبى من أمى ؟؟!!
أى صدفة تلك التى جعلت أبى لا يعير دعوات تحديد النسل اهتماماً والتى تحدد المواليد فى الأسرة باثنين وعددنا نحن خمسة وترتيبى الرابع ؟؟!!
إنه القدر يا صديقى العزيز ، والذى يجمعنى بك الآن ، والقدر الذى علق الشمس فى الفضاء ورفع السماء بغير عمد وأجرى فى الأرض الماء ، وهو القدر الذى أنقذ والدك من محاولة اغتيال لكى تأتى أنت إلى الدنيا ، وليس هذا تفلسفاً أو كلاماً غير منطقى ، بل هو المنطق والعقل بعينه .. أضف إلى ذلك ما قاله خالق هذا الكون ربنا جل وعلا إذ يقول فى قرآننا العظيم : (((إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ))) { القمر : 49 }
وهل معنى أن يخطئ (( عبدالحليم حافظ )) و (( نجيب محفوظ )) فى حق القدر .. هل معنى هذا أن كلامهما يمثل الاتجاه السائد فى المجتمع ؟؟!!!
تتحدث عن الأيتام وتقول إن حياتهم جحيم !! أما سمعت عن أعظم يتيم فى العالم سيد الخلق أجمعين رسولنا المعظم – صلى الله عليه وسلم – توفى والده وهو فى أحشاء أمه ، وتوفيت أمه وهو فى السادسة من عمره ، ولايذكر لها إلا طيفاً قليلاً من الذكريات ، وعاش وحيداً ، ولكن القدر جعل منه أعظم شخصية على الإطلاق .
تتحدث عن الفاة التى فقدتها ، فمن أدراك أن حياتك كانت ستستقر معها ؟؟ أم أن الصدفة كانت ستجعلك سلطان زمانك وسيد أيامك ؟؟!!
وليس القدر هو المسئول عن تحكم الحثالة فى الفضلاء ، بل هى غلطة مجتمع بأسره ، وتنشئة فاسدة وتعليم شائه ، ومسخ ثقافى وانحلال أخلاقى .
وعن أى حق سليب تتحدث ؟؟؟
وعن أى ظلم تتحدث ؟؟
فإذا كان ربنا – سبحانه وتعالى – يسمى نفسه (( العدل )) ، فهل سيظلمك ؟؟!!
تتمنى أن تجمع الأموال وتشتهى أفضل الطعام وتقتنى أحدث (( موبايل )) ولو نظرت إلى تحتك قليلا لوجدت العرايا وساكنى المقابر والشحاذين ولوجدت من قُطعت ذراعه ولوجدت من بُترت ساقه ، ولوجدت الأعمى والأعرج والقعيد والمجنون .. أى أنك ملك وسط هؤلاء الذين اقتضت الحكمة الإلهية أن يكونوا فى أوضاعهم تلك وظروفهم هذه ، ولو أنك قرأت حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم لأرحت نفسك وأرحتنى معك إذ يقول : (( لا تنظروا إلى من هو فوقكم ، ولكن انظروا إلى من هو أسفل منكم )) صدقت يارسولنا إنه منهج تربوى بديع ...
وأنت لو نظرت إلى من هو أسفل منك يستحيل أن تفكر فى شئ مما تقوله .. والقدر ياسيدى هو الذى أنقذك من موتك المحقق أمام القطار ؛ فالصدفة لا تمنح أعمارا ولكن القدر هو الذى حدد لك عمراً وأنجاك من الموت لتكمله .
أحسست أنى أحدثت بصديقى هزة عنيفة ، وظل كلانا صامتاً ينظر للآخر إلى أن رفع المؤذن صلاة العشاء ، فقلت له : هيا بنا نصلى .
- لقد كرهت الدنيا وما فيها ولم يعد لى طاقة لعمل أى شئ .
- إننا سنذهب لنصلى لا لنبنى الأهرامات !!
دخلنا المسجد وانتهينا من الصلاة ، فوجدت على وجهه إشراقة نور وابتسامة جميلة ومال على أذنى وقال لى : لقد أحسست براحة لم أحسها من قبل فى حياتى ، وابتسم وقال : أشكر القدر الذى جمعنى بك ,
قلت له : رب قدر خير من ألف ميعاد